البلاغة ...والنقد الثقافي.

Поделиться
HTML-код
  • Опубликовано: 7 фев 2025
  • مفهوم الثقافة:
    تدورُ مادةُ (ثَقِفَ) في اللغةِ حولَ معانٍ متعددةٍ وثيقةِ الصلةِ بتحصيلِ المعرفةِ القائمةِ على التثبُّتِ والتحقُّقِ والإحكامِ؛ فمن معانيها: الحَذْقُ، والفَهْمُ، والفِطْنَةُ، والذَّكاءُ، والضبطُ، وإحكامُ المعرفةِ، وسُرعةُ التَعلُّمِ، والظَّفر( )
    مفهوم الثقافة اصطلاحًا:
    لم تتفق كلمة ُالعلماءِ حولَ مفهومِ الثقافةِ؛ نظرًا لاختلافِ محيطهم المعرفيِّ من ناحية( ) وتعدِّدِ الحقولِ المعرفيَّةِ التي ينتمي إليها مصطلحُ "الثقافة" مثل علمِ النفسِ وعلمِ الاجتماعِ وعلمِ الإنسانِ، ومن ثمَّ يمكنُ القولُ أنَّه من المصطلحات التي تحمل دلالات غربية حديثة نشأت مصاحبة لهذه العلوم، ولذا يختلفُ مفهومُه بحسبِ ما قُيِّدَ به، فهناك ثقافةُ الفردِ، وثقافةُ الأمةِ:" أمَّا ثقافةُ الفردِ: فهي كلُّ ما يتعلمُه المرءٌ لمدةٍ زمنيةٍ؛ ليكتسبَ بعد ذلك مجموعةً من المعلوماتِ والحقائقِ والقيمِ ذاتِ العلاقةِ بمجالاتِ وعلومِ الحياةِ، مما يمكِّنُه من المشاركةِ الفاعلةِ في محيطِه الأسريِّ والمجتمعيِّ، أمَّا ثقافةُ الأمةِ: فهي التراثُ الحضاريُّ والفكريُّ المكتسبُ في مختلفِ الجوانبِ، والذي تمتازُ به هذه الأمةُ عن غيرها من الأممِ، ليشكلَ هذا التراثُ عبر حقبٍ وقرونٍ إطارًا يحكمُ الأفرادَ والأسرَ والمجتمعاتِ والأوطانَ المنتميةَ لهذه الأمةِ، أمَّا التعريفُ الشموليُّ حسب بعضِ الدراساتِ التي تُعرِّفُ الثقافةَ: بأنَّها عبارةٌ عن منطومةٍ متكاملةٍ لكلِّ الأفكارِ والمثلِ والقيمِ والمعتقداتِ والعاداتِ والمهاراتِ وطرقِ التفكيرِ وأساليبِ الحياةِ والتراثِ ووسائلِ الإتصالِ( )
    نتبين من ذلك أن مفهومَ الثقافةِ يشتملُ على بُعْدينِ أساسيين: الأوَّلُ: البعدُ الماديُّ، والثاني: البعدُ المعنويُّ، والمرادُ بالبعدِ الماديِّ: الأشياءَ الماديَّةَ التي هي من صنع ِالإنسانِ ويمكنُ إدراكُها بالحواس، كالمأكلِ والملبسِ والأبنيةِ والآثارِ والمعابدِ، والمراد بالبعدِ المعنويِّ: كلُّ ما لا يمكنُ إدراكُه كالقيمِ والمبادئِ والأخلاقِ والعقائدِ والميولِ والاتجاهاتِ والأفكارِ والمعارفِ... وعلى الرُّغم من التفرقة بين الثقافةِ الماديَّةِ والثقافةِ المعنويَّةِ إلَّا أنَّه لا يمكنُ الفصلُ بينهما؛ لمَّا بينهما من تداخلٍ؛ فالعلاقةُ بينهما علاقةٌ تبادليةٌ، تقومُ على التأثيرِ والتأثرِ، فكثيرٌ ما يتحكَّمُ البعدُ المعنويُّ في البعدِ الماديِّ، فبعضُ الجوانبِ الماديَّةِ من ثقافةِ الإنسانِ كالمأكلِ والمشربِ والملبسِ وكلُّها أمورٌ ماديةٌ تؤثرُ فيها عواملُ عقائديةٌ وأخلاقيةٌ وعرفيةٌ، تمامًا كما تؤثرُ العقيدةُ في مأكلِ الإنسانِ ومشربِه وملبسِه.
    وقد مارستْ البلاغةُ العربيةُ في أصولها جانبي الثقافة (المعنوي والمادي) فالعربيُّ في بيئتِه اعتقد مجموعةً من المفاهيمِ والتصوراتِ سواءٌ آمنَ بها أو اضطرتْه طبيعةُ العصرِ إليها، هذه المفاهيمُ تبلورتْ في شكلِ نتاجٍ أدبيِّ جسَّدَ ميولَه واتجاهاتِه وعاداتِه وتقاليدَه ومعارفَه وأفكارَه، بل الأعجبُ من ذلك أنَّه تفاعل مع مجتمعه، فلم تكن هناك فجوةٌ زمنيةٌ أو معرفيةٌ بين عالَمِه الماديِّ والمعنويِّ على ما سيأتي بيانه، تمامًا كما واكبتْ البلاغةُ العربيةُ حركةَ "الشعوبية" بمؤلفاتٍ جسَّدت تلك المرحلةَ؛ فلم يقفْ الأمرُ في شأنِ القرآنِ الكريمِ على الاعتقاد بصدقِه والإيمانِ بإعجازِه، بل كانت هناك ممارساتٌ تطبيقيَّةٌ قدَّمَ العلماءُ من خلالها محاولاتٍ جادةٍ للوقوفِ على أسرار النظم القرآني؛ لعلَّ من أبرزها ما قام بها كلٌ من الرَّمانيُّ ت384هـ في كتابه" النكت في إعجاز القرآن" والخطَّابيِّ ت 388هـ في كتابه" بيان إعجاز القرآن" والباقلانيّ ت403هـ في كتابه" إعجاز القرآن" وعبد القاهر الجرجاني ت471هـ في كتابيه" دلائل الإعجاز" و" أسرار البلاغة" والزمخشري ت538هـ في تفسيره" الكشاف" والقاضي عياض ت 544 في كتابه " الشفا في التعريف بحقوق المصطفى لإعجاز القرآن"
    البلاغة والفراغ الثقافي:
    ينشأُ الفراغُ الثقافيُّ "التخلف الثقافي"- كما قلتُ- من تفاوتِ التغييرِ الذي يصاحبُ البعدينِ (الماديّ والمعنويّ) ففي حين يكونُ التغييرُ سريعًا ومتلاحقًا في الجانب الماديِّ يكونُ التغييرُ في الجانب المعنويِّ أبطأُ، وعلى فترات متباعدة، وإنْ اتسما كلٌ من الجانبين بالتغييرِ، وعندما تزداد الهُوةُ بين الجانبين (المادي والمعنوي) من جراء التباينِ في سرعتهما، فإنِّه تحدث ظاهرةٌ يسميها البعضُ " التخلفَ الثقافيَّ" أو" الفراغَ الثقافيَّ" التي يُعبرُ عنها بعمليةِ إعاقةِ قدرةِ الفردِ أو الجماعةِ على إحداثِ نوعٍ من التكيفِ أو التواؤمِ بين الجوانب الماديَّةِ والمعنويَّةِ من الثقافة؛ نظرًا لتغير أحدهما - الجانب المادي- بصورةٍ أسرعُ من الجانبِ الآخرَ(المعنويِّ) ممَّا يؤدِّي إلى خللٍ نسبي في نسق الثقافةِ بالمجتمعِ، ويُحدثُ عدمَ انسجامِ بين الجانبين"( )
    ونستطيعُ الربطُ بين هذه الظاهرة ِوالأصولِ الثقافيةِ للبلاغةِ العربيةِ من خلال الآتي:
    • قد يؤدِّي هذا التفاوتُ في التغيير بين البعدين( المادي، والمعنوي) إلى نمط ٍمن التفكيرِ البلاغيِّ يكون سببًا في حدوث فراغِ ثقافيِّ بلاغيّ؛ وذلك عندما تتخلى المؤلفاتُ البلاغيةُ عن دورها المنوطِ بها، وهو القدرةُ على تحليلِ النصوصِ وإنتاجِها مثلًا، أو عدمُ التواصلِ الفعالِ بين الأجيالِ وتلبيةِ رغباتِهم في التعبير عن مشاعرهم وأغراضهم، أو التأثيرِ في المخاطبين من خلال الإقناعِ القائمِ على الحجج والبراهين تارةً أو جمالياتِ الأسلوبِ القائمِ على التأثرِ الوجداني من ناحية أخرى.
    • عدمُ الربطِ بين المشاريعِ البلاغيةِ ومشكلاتِ المجتمعِ، مما يترتَّبَ عليه اتساعُ الفجوةِ بين المعرفةِ والممارسةِ الفعليةِ، فينشأُ عن ذلك تأخرٌ ثقافيٌّ وفكريٌّ؛ بحيث تصبحُ البلاغةُ في وادٍ، والمجتمعُ بمشكلاتِه في وادٍ آخرَ

Комментарии •